أخبار الدار بلوس

رحيل الشيخ مولاي جمال الدين القادري بودشيش… مسك ختام لمسيرة علم وعرفان امتدت لأكثر من نصف قرن

رحيل الشيخ مولاي جمال الدين القادري بودشيش… مسك ختام لمسيرة علم وعرفان امتدت لأكثر من نصف قرن

الدار/ إيمان العلوي

غيب الموت، ظهر يوم الجمعة، الشيخ مولاي جمال الدين القادري بودشيش، شيخ الزاوية القادرية البودشيشية، عن عمر ناهز 83 عامًا، بعد مسار حافل بالعطاء الروحي والعلمي جعل منه أحد أبرز أعلام التصوف المعاصر في المغرب والعالم الإسلامي.

برحيله، تطوى صفحة من صفحات السلوك الصوفي الأصيل الذي جمع بين التزكية الروحية وخدمة القيم الإنسانية، فيما تفتح صفحة جديدة مع خليفته الذي سيواصل حمل مشعل الزاوية ومبادئها.

وُلد الشيخ مولاي جمال الدين في أسرة علم وصلاح بمداغ، بضواحي بركان شرق المغرب، وهي القرية التي احتضنت الزاوية القادرية البودشيشية لقرون، حيث شبّ على سماع القرآن الكريم وحضور حلقات الذكر وتلقي علوم الشريعة على يد والده وأعلام عصره. وقد نشأ في بيئة يطبعها الورع والانفتاح، حيث كان البيت البودشيشي ملتقى للفقهاء والمريدين من مختلف ربوع المغرب. ومع مرور السنين، تدرج الشيخ في مراتب التربية الصوفية، حتى صار أحد أبرز تلامذة والده الشيخ مولاي عبد القادر القادري بودشيش، قبل أن يخلفه في قيادة الزاوية بعد وفاته، مستندًا إلى إرث روحي عريق يمتد إلى الطريقة القادرية في المشرق.

عُرف الشيخ مولاي جمال الدين بأسلوبه المتزن في الدعوة، جامعًا بين التمسك بالثوابت الدينية والانفتاح على قضايا العصر. وقد جعل من الزاوية البودشيشية فضاءً عالميًا للتواصل الروحي والثقافي، حيث استقبل مريدين وزوارًا من مختلف القارات، وأشرف على تنظيم الملتقيات العالمية للتصوف التي كانت منابر للحوار بين الثقافات والأديان، إضافة إلى كونها منصات للتعريف بالتراث المغربي في أبهى صوره. كما ساهم في نشر قيم التسامح والاعتدال، متخذًا من التربية الروحية طريقًا لمواجهة الغلو والتطرف.

وعلى امتداد عقود، تمكن الشيخ من تطوير عمل الزاوية بما يواكب التحولات الاجتماعية والفكرية، فكانت له رؤية إصلاحية في المجال التربوي والدعوي، إذ أسس معاهد قرآنية، ودعم البحث الأكاديمي في الفكر الصوفي، وأولى اهتمامًا خاصًا بالشباب والمرأة، معتبرًا أن بناء الإنسان روحًا وأخلاقًا هو المدخل لبناء المجتمع.

مكانة الشيخ مولاي جمال الدين لم تقتصر على المغرب، بل امتدت إلى المحافل الدولية، حيث شارك في مؤتمرات ولقاءات فكرية وصوفية في الشرق والغرب، ما جعل اسمه مقترنًا بصورة الإسلام المعتدل الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة. وقد حظي بتقدير علماء ومفكرين من مختلف الأديان، لكونه كان رمزًا للحوار الإنساني وأحد أعمدة التصوف الحي في القرن الحادي والعشرين.

برحيله، تفقد الزاوية القادرية البودشيشية قائدًا روحيًا كان بمثابة الأب للمريدين، ومرشدًا لا يكلّ عن غرس معاني المحبة والخير في القلوب. ومن المرتقب أن يتولى نجله وخليفته، الشيخ مولاي منير القادري بودشيش، مسؤولية قيادة الزاوية، مواصلًا النهج الذي رسمه والده، ومكرسًا العمل على نشر الرسالة الروحية للزاوية في المغرب والعالم، بما يحافظ على مكانتها كإحدى أبرز المدارس الصوفية المعاصرة.

رحم الله الشيخ العارف بالله مولاي جمال الدين القادري بودشيش، وأسكنه فسيح جناته، وجعل ما قدّمه من علم وتربية في ميزان حسناته، وبارك في خلفه وورثته ليواصلوا حمل مشعل النور الذي أضاء قلوب الآلاف عبر العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى