
بقلم: نورالدين زاوش
حينما بسط جلالة الملك، في خطاب العرش الأخير، يده الشريفة إلى الشقيقة الجزائر من أجل تجاوز الخلافات لبناء مغرب عربي مشرق، بدأت الجزائر في إقامة أشغال صيانة لمقر سفارتها في الرباط؛ مما حذا ببعض المؤثرين المغاربة لنشر الخبر وإذاعته على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لتتحرك أبواق العسكر اللئيمة وجرائدها متعددة الألوان، مصرحة بأن إعادة تهيئة السفارة الجزائرية شأن داخلي صِرف، ولا دخل للمخزن فيه.
صحيح إن ما يدخل في اختصاصات الدول هو شأن سيادي صرف؛ ولم تكن الدبلوماسية المغربية ليفوتها هذا الأمر، أو لتنخدع بالطقوس الصبيانية التي تعوَّد عليها نظام لم ينفطم بعد، عن أعراض المراهقة منذ ستين عاما، خصوصا وأن هذه الدبلوماسية العريقة ضليعة في معرفة الخبايا المظلمة لعلم النفس الاجتماعي، والتي تؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، بأن نظام العسكر يعاني من متلازمة “عقل القرد المشتت ذهنيا”، من كثرة انتقاله بين الأشجار.
من بين هذه التجارب السريرية المثيرة حول القردة، أن وُضع قرد في قاعة تحوي كومة من الموز معلقة في سطح أحد أركان الحجرة، بينما وُضع سُلَّم في الركن المقابل؛ في ظل هذا الوضع، وطالما لا يرى القرد السُّلم والحزمة في نفس الوقت، فإنه لم يتمكن من الوصول إلى الموز؛ الأمر الذي تغير حينما جُعلت الوسيلة والغاية في نفس باحة البصر للقرد، أنذاك فقط، تمكن من تحقيق الهدف المنشود.
لقد بات نظام العسكر محاصرا من جميع الجهات، معزولا عن جميع الأطراف، سيء الشكل وقبيح الرائحة، وكأنه قرد تجاربنا المثيرة، وبدلا من أن يحرك أجفانه الثقيلة فيرى يد الصلح ومخرج حفظ ماء الوجه في نفس باحة البصر، ثم يحرك أردافه النتنة إلى حل يرضي الجميع، أصر َّكعادته أن يجعل من اليد الكريمة دليلا على الاستسلام والانهزام، في مشهد درامي تتقزز منه القردة قبل بني الإنسان.
صحيح إن جميع خطب جلالة الملك موزونة بميزان الذهب والألماس؛ لكن بعضها أعذب وأرق وأدق من بعض، فهِمها من فهمها، وجهلها من جهلها؛ فحينما تحدث جلالته عن حفظ ماء الوجه، فهو لم يقصد حفظ ماء وجه المغرب المحفوظ منذ الأزل؛ وبشهادة جميع الخلق؛ إنما قصد أن النظام الجزائري إذا كان يعرقل حل الصحراء لأنه يرى موته بحلِّها، فإن المغرب لن يتوان من أن يقدم له ما بوسعه أن يقدم، في إطار القوانين الدولية واحترام حقوق الإنسان، كي لا يزول نظام حكمه بزوال سرديته التي بنى عليها وجوده.
لو وَضع نظام العسكر السُّلم المُلقى إليه على طبق من ذهب، في نفس زاوية حزمة الموز، لكان قد بدَّل أسطوانته المشروخة وعوضها بسردية مغايرة من قبيل: “المصالحة الكبرى”، و”لّمِ شَمْل الإخوة الأشقاء”، و”العودة إلى خيمة المغرب العربي الكبير”، ورفع شعار “الازدهار والتقدم والنمو”، وطوى صفحة الماضي، ثم جمَّل ذلك المشهد العاطفي، الذي تعشقه الجماهير حتى النخاع، بتغييرات اقتصادية هامة وعاجلة، بدأت فيها طوابير الذل والعار تتراجع تدريجيا، حتى يحس المواطن أنه مقبل على عصر جديد، يمكن أن يأكل فيه اللحم ويعصر الزبيب؛ لكانت سرديته هذه أكثر إقناعا، وأشد تأثيرا، وكانت أضمن له للبقاء في الحكم من سردية تَبَول عليها الدهر وعافها الزمان.
إن اللعبة البغيضة قد انتهت، والإنذار المغربي الأخير قد أُطلق، واليد الممدودة الشريفة قد بُسطت لآخر مرة؛ لكن العسكر الذي لا يرى أبعد من قدميه آخر من يعلم؛ حتى أنه، من فرط غبائه، بدأ يتمسك بسردية “جمهورية الريف” بعدما شعر بانسلال “سردية الصحراء” من فرط أصابعه، تماما مثل القردة التي لا تترك فرع شجرة حتى تمسك بفرع شجرة أخرى.
أخيرا، إذا كان نظام العسكر المهبول ينتظر خطاب عرش جديد من أجل أن يكمل صيانة سفارته العرجاء؛ فمن المؤكد أن من يكمل هذه الصيانة نظام جزائري جديد يقرره الشعب الجزائري الشقيق، بعدما ينفضُّ الشعب الصحراوي “الفنكوشي” كلٌّ إلى حال سبيله، أو تقرره الدول العظمى، والتي لا يبدو أنها تسبح في نفس البركة الراكدة التي يسبح فيها النظام الجزائري المعتوه.