أخبار الدار بلوس

هل تدلّ الإهانات التي يتلقاها ماكرون على أفول النفوذ الفرنسي؟

الإهانة الجديدة التي تلقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته الأخيرة لجمهورية الصين الشعبية تضرب آخر مسمار في نعش ماء الوجه الفرنسي، الذي أُهدر خلال هذا العام في مختلف المحطات الدبلوماسية التي كان ماكرون حاضرا فيها. أهدر عندما تعرّض لإهانات صريحة من طرف مجموعة من القادة والرؤساء والمسؤولين الأفارقة خلال جولاته في القارة السمراء، وأهدر أيضا عندما تم رفض طلبه النزول في المغرب قادما من الجزائر دون تنسيق مسبق مع السلطات الخارجية والتحضير البروتوكولي المعهود للزيارة. وأهدر ماء الوجه هذا أيضا في الداخل الفرنسي عندما تحول الرئيس وصورته إلى هدف للإهانات والصفع والقذف في مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا بعد إقدامه على فرض نظام المعاشات الجديد.

ماذا تعني هذه المشاهد كلها في أسوأ عام تعيشه الدبلوماسية الفرنسية؟ ما يجري ليس مجرد حوادث معزولة عن بعضها البعض، وإنما هو نسق من المؤشرات الخارجية الدالة على التحول العميق وربما الأفول الذي يعرفه النفوذ الفرنسي في العالم وفي القارة الإفريقية على الخصوص. عندما وقف الرئيس الفرنسي إلى جانب الرئيس الصيني قبل يومين من أجل التقاط صورة رسمية، حاول الرئيس الشاب برعونته المعهودة أن يضع يده في جيبه بشكل لا يخلو من قلة احترام للطرف الآخر، وربما كان يهدف من وراء ذلك إلى تسجيل موقف لصالحه أمام رئيس أكبر قوة دولية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت اليوم تقود تيارا دوليا يحاول تغيير النظام العالمي وإعادة بنائه على قواعد جديدة.

لكن المشرفين على البروتوكول الصيني كانوا أكثر يقظة مما توقع ماكرون بعجرفته المعهودة. لقد طلب منه هؤلاء وبشكل علني أمام كاميرات العالم أن يخرج يده من جيبه حتى يتم التقاط الصورة الرسمية، وما كان منه إلا أن استجاب لذلك بشكل مهين وضعه في موقف يشبه تلميذا يطلب منه مدرّسه أن يعتدل في جلسته أو يخلع قبعته. والظاهر أن القبعة التي كانت تحجب الفراغ الذي تعيشه الدبلوماسية الفرنسية في العالم قد انخلعت أيضا. لكن فرنسا ما تزال تنكر ذلك وتحاول الهروب من حقيقة التحولات التي عرفها العالم، مع صعود قوى أخرى مؤثرة مثل الصين والهند والبرازيل زيادة على روسيا، والتي تحاول بشكل منسق بناء هذا النظام العالمي الجديد القائم على الخروج بالأساس من هيمنة الدول الغربية.

فرنسا ترفض إلى هذه اللحظة قبول فكرة أفول النفوذ الفرنسي في العالم وفي مستعمراتها السابقة، وما تزال تبحث عن أدوار ومكانة لم تعد تقدر على ضمانها. عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية كان ماكرون أول المتطوعين لمحادثة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل زاره قبل قرار الحرب بأيام قليلة معتقدا أن هذه الزيارة وحدها ستكفي لوقف العملية العسكرية الروسية. لكن النتيجة كانت مرة أخرى إهانة أمام الكاميرات عندما جلس ماكرون في طاولة ضخمة تفصل بينه وبين بوتين مسافة طويلة، وعندما غادر الرئيس الروسي قاعة الندوة الصحفية تاركا وراء ماكرون ليضطر إلى مطاردته من الخلف. هذه المطاردة أو الاتباع رمز قوي ودال على واقع فرنسا التي تطارد مجدا غابرا لم يعد له ما يسنده على أرض الواقع.

عندما ستدرك فرنسا هذه الحقيقة، وتصدق أن العالم لم يعد متمركزا حول أوربا بقواها الاستعمارية التاريخية، فرنسا وبريطانيا، فيمكنها حين ذلك أن تستوعب حقيقة المتغيرات الدولية الجارية بسرعة غير مسبوقة. وستفهم أن منطق الإملاءات والاستغلال الاستعماري قد ولى، بعد أن ظلت لعقود طويلة من الزمن تنهب خيرات إفريقيا بينما تغرق القارة السمراء في بؤسها وفقرها ودوامة ديونها التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد. عندما ستتأمل منجزات الصين في مجال البنيات التحتية في العديد من الدول الإفريقية التي قدمتها بميزانيات متوسطة وبجودة عالية بل وبتمويل من المؤسسات المالية الصينية على آجال بعيدة، ستعرف أن الأفارقة رفعوا عن أعينهم الحجاب الذي كانت تغطيه الدعاية الفرنسية. حينها فقط يمكن للفرنسيين التفكير في مقاربة جديدة للتعامل مع الشركاء الأفارقة بدلا من المقاربة الحالية التي تعتبرهم مجرد أتباع وموالين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى