الكابرانات ينفقون على التماثيل وينسون المجاري
المشاهد التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية من مدن جزائرية منكوبة بالفيضانات والسيول تعد كارثة مدمرة ومأساة حقيقية خاصة بعد أن راح ضحيتها أطفال أبرياء لا حول لهم ولا قوة. كان منظر السيول وهي تتدفق من الأزقة والشوارع الضيقة لمدينة تيبازة وتجرف المركبات وتخرب البنية الطرقية والتحتية تتجاوز ألم الكارثة ومحنة القدر، بعد أن أثارت لدى الكثير من المواطنين الجزائريين امتعاضا وغضبا شديدين من درجة الفساد الهائل الذي ينخر البلاد ويظهرها ببنيات تحتية متخلفة غير قادرة على استيعاب تساقطات مطرية من المستوى المتوسط.
لا يتعلق الأمر بمقاييس مطرية استثنائية بقدر ما يتعلق بوابل مطري عابر كان من الممكن استيعابه لو كانت المدن الجزائرية المنكوبة تتوفر على بنية تحتية وشبكة تطهير سائل في المستوى. وهي بالمناسبة مسألة من الضروري أن تتوفر في كل المدن العصرية خاصة في بلد يتوفر على فوائض هائلة وغير مسبوقة من أموال النفط والغاز التي كان من المفروض أن توجه منذ سنوات إلى تأهيل المدن وتطوير قدراتها على تصريف المياه الفائضة من مثل هذه السيول. ناهيك عن إعادة تعمير هذه المدن بشكل يجنبها هذه الكوارث بدل الحفاظ على أحياء هامشية وعشوائية على شفا الأنهار في مختلف المناطق والمدن في البلاد.
هذه الكارثة جاءت إذن لتفضح التخلف الهائل الذي يضرب البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها في زمن العسكر، الذين يفضلون توجيه الاستثمارات الكبرى نحو شراء خردة الأسلحة الروسية وتمويل مشروع الانفصال في الصحراء المغربية، والإنفاق على الحملات الإعلامية واللوبيات الغربية من أجل شراء دعم وهمي. لقد كان أولى بهذه الموارد المالية الهائلة أن تبني مدنا جديدة وعصرية وذكية من الجيل الجديد في مختلف أنحاء البلاد. فما تنتجه الجزائر من بترول وغاز يفوق ما تنتجه دول مثل قطر والإمارات العربية المتحدة وهذا يعني أن العاصمة الجزائرية لا يجب أن تختلف كثيرا عن الدوحة أو دبي أو الرياض من حيث العمران والبناء.
لكن الواقع يظهر غير ذلك، بل يكشف عن حجم التخلف الذي يخترق هذه الأرض المنكوبة، التي لا يعرف أهلها إن كانوا سيقفون في طوابير الحليب والسميد، أم في طوابير شراء تذاكر مباريات كرة القدم أم يرتقون رؤوس الجبال والهضاب من أجل الهروب من سيول الأمطار التي لا تجد منفذا لها تعبر منه إلى البحر. وعموما هذه هي عقلية العسكر أينما حلّوا أو ارتحلوا أو سيطروا على القرار. عقلية الاستثمار في الخوف والحرب وتجريف مقدرات البلاد وثرواتها في المشاريع الفاشلة كبناء أعلى تمثال في العالم الذي خصص له العسكر ملايين الدنانير الجزائرية. هذه العقلية تجعل صاحب القرار المركزي والمحلي ينفق بسخاء على صنم جديد وينسى الإنفاق على المجاري التي تحتاجها البلاد.
له الله هذا المواطن الجزائري الذي يحتاج إلى صبر أيوب كي يستسيغ ما يحدث من حوله عبث وإجرام وانتهاك دولة لحقوقه وهدرها لثرواته التي لا يستطيع أن يتمتع بها على غرار الرفاهية التي يعيشها المواطن السعودي أو القطري أو الإماراتي، أو حتى الليبي. بل يجد نفسه في مستوى معيشي أدنى من دول أفقر من الجزائر بكثير، ولا تمتلك مواردها وثرواتها الطاقية الكبيرة. وفوق هذا وذاك عليه أن يتحمّل ماكينة التبرير الإعلامي التي تدعي أن السيول الأخيرة التي ضربت الجزائر لا يمكن أن تتحملها أي شبكة مجاري كيفما كانت في العالم، وتورد ذلك على لسان مسؤولين مركزيين ومحليين في مختلف المناطق المنكوبة، في الوقت الذي يعلمون فيه جيدا أن هذا الخطاب مجرد تبرير دعائي، وأن ما يعصف من أمطار في كثير من بلدان العالم يضاعف ما تساقط في الجزائر عشرات المرات.