الرباط تواصل تنويع شركائها الاقتصاديين ومواقف فرنسا تهدد مستقبل مشاريعها الاستثمارية بالمغرب
الدار- المحجوب داسع
لم تكن زيارة رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، رفقة وفد مؤلف من 16 وزيرا، للجزائر في 9 أكتوبر الماضي، وقبلها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في غشت الماضي، سوى انعكاسا لخوف بدا يتملك الجمهورية الخامسة تجاه تنامي المد المغربي في إفريقيا على المستويين التجاري والاقتصادي، واستراتيجيته في القارة التي تستحضر مصالحه بالدرجة الأولى، بعيدا عن تبعيته لفرنسا، ومنطق “الابتزاز” و “المساومة”.
تنويع المملكة لشركائها التقليديين، بدأ منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، إيمانا من الرباط بوجاهة هذه المقاربة في العلاقات الدولية القائمة اليوم على المصالح المتبادلة، وهو ما أكد عليه الجالس على العرش، في خطاب الذكرى الواحدة والستين لثورة الملك والشعب لسنة2014، حينما تطرق الملك محمد السادس لتوسيع علاقات المملكة مع الصين وروسيا والخليج وإفريقيا.
خطاب فهم منه بأن المغرب لم يعد “ملحقة” لأي من حلفائه التقليديين، خاصة في أوربا، ومن بينهم فرنسا، اذ أكد الملك محمد السادس، في ذات الخطاب، متحدثا على شركات المغرب الاقتصادية، أنّه “إذا كان المغرب يحتاج لبعض الجهود فقط، لمواصلة السير بخطى واثقة، للانضمام إلى الدول الصاعدة، فإن سياسة الانفتاح الاقتصادي قد عززت مكانته كمحور للمبادلات الدولية”، مؤكدا أن ذلك ما تعكسه الشراكات المثمرة، سواء مع الدول العربية، وخاصة مع دول مجلس التعاون الخليجي، أو مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، حيث يعد المغرب ثاني مستثمر بإفريقيا”.
التوجه نحو دول جديدة، وشراكات اقتصادية خارج “دائرة” بلدان الاتحاد الأوربي، التي ألف المغرب التعامل معها، سيتأكد جليا من خلال تحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى المزود الرئيس للجيش المغربي بالأسلحة بما في ذلك النوعية منها، وأن تطرق الصين باب الاستثمار في البنى التحتية وأن تستعد روسيا لبناء مفاعل نووي مغربي.
عكس ما تذهب اليه وسائل الاعلام الفرنسية، التي دأبت في أدبياتها على تصنيف المغرب، بلغة لا تخلو من تعالٍ بأنه “حديقة خلفية لفرنسا”، لم تعد الرباط تواجد أي مشاكل في إيجاد بديل لفرنسا بخصوص مجموعة من الشراكات الاستراتيجية، خاصة وأن التجربة أظهرت بأن باريس، التي كانت تستفرد بـ”حصة الأسد” من المشاريع الاستثمارية في المملكة، لم تستطيع حتى ابداء موقف واضح من قضية الصحراء المغربية، وظلت مواقفها غامضة وملتبسة.
في إطار التوجه نحو أسواق جديدة، يتطلع المغرب للحصول على مفاعل نووي من روسيا، من أجل الاستعمالات السلمية، يضمن للمملكة إنشاء مفاعل نووي وتحسين البنى التحتية النووية الموجودة حاليا، الأمر الذي يضمن الاستخدام السلمي لهذه الطاقة في 14 مجالا بما في ذلك إنتاج الكهرباء وتحلية مياه البحر وإنشاء محطة لمُسَرِّعات الجسيمات الأولية المستخدمة في عمليات الشحن الكهربائي، وهو المشروع المتفق عليه بين المؤسسة الحكومية الروسية المتخصصة في مجال الطاقة النووية “روساتوم” والحكومة المغربية.
ولا ينحصر الاتفاق المغربي-الروسي على هذا الجانب، فقط بل يشمل، أيضا الاعتماد على التجربة الروسية في مجال التعامل مع النفايات النووية وتدوير الوقود النووية المشع، الى جانب التنقيب على رواسب اليورانيوم والبحث عن الموارد المعدنية.
والى جانب ذلك، يشمل الاتفاق الموقع بين الرباط وموسكو، قيام خبراء روس بتدريب موظفي المحطات النووية المغربية والعاملين في المركز الوطني للطاقة والعلوم والتقنيات النووية، وذلك بناء على اتفاق تم توقيعه بين الرباط وموسكو سنة 2018.
الى جانب روسيا، يستأثر التينين الصيني، أيضا بالاهتمام المغربي، خاصة في مجال البنيات التحتية، فرغم أن فرنسا هي التي كان لها السبق في انجاز خط “البراق” الرابط بين طنجة والدار البيضاء، فان كل المؤشرات تؤكد أن مشروع انجاز الخط الجديد المزدوج، الذي يشمل الدار البيضاء مراكش ثم مراكش أكادير، سيؤول الى بكين، بالنظر الى عمق شراكاتها الاستراتيجية مع الرباط، وكذا بالنظر الى خبرتها التي تجمع بين الجودة والسرعة، والتكلفة المنخفضة، مقارنة بفرنسا، دون اغفال معطى مهم هو أن المغرب وقع مع الصين، خلال زيارة الملك محمد السادس لها سنة 2016، مذكرة تفاهم تتعلق بالشراكة في التكوين في مجال السكك الحديدية والدراسات.
على المستوى العسكري، عزز الموقف الأمريكي الداعم لمغربية الصحراء، من التعاون بين واشطن والرباط في مجال صفقات التسلح، في خضم عمليات التحديث التي تعرفها القوات المسلحة الملكية، حيث يكشف تقرير لمؤسسة “”انترناشيونال بوليسي”، الصادر سنة 2020، أن المغرب أضحى يقتني 91 في المائة من أسلحته من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما تعزز بشكل أكبر في السنتين الأخيرتين مع صفقات اقتناء أسراب من طائرات “إف 16” بـ2,8 مليار دولار و”مروحيات “أباتشي” بـ1,6 مليار دولار.
الى جانب أمريكا، وروسيا، والصين، أعلن المغرب وألمانيا في بيان مشترك، صدر في غشت 2022، أثناء زيارة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى الرباط، عن مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية تشمل بالإضافة الى انسجام مواقفهما السياسية وتوافق وجهات نظرهما حول الصحراء المغربية ومنطقة الساحل والشرق الأوسط وليبيا ومالي وقضايا إقليمية ودولية أخرى، إطلاق برنامج شامل لزيادة التعاون وتعزيزه في ستة مجالات، تشمل القضايا الأمنية وسياسة الطاقة والمناخ والتعاون الإنمائي والتعاون في القطاع الاقتصادي والسياسة الثقافية والتعليمية، كما تشمل مكافحة أزمة المناخ وأيضًا تطوير الهيدروجين الأخضر.
بلغة الأرقام، ارتفعت المبادلات التجارية بين الرباط وبرلين، بشكل سريع ما بين 2010 و2020، حيث ارتفعت الصادرات الألمانية إلى المغرب في هذه الفترة بنسبة 38.5%، بينما زادت الصادرات المغربية إلى ألمانيا بنسبة 121.8%، كما قفز الاستثمار الألماني المباشر في المغرب ما بين 2010 و2019 من 0.18 مليار يورو إلى 1.32 مليار يورو، أي بنسبة زيادة تقدر بـ 643%، وهي ديناميكية تصاعدية وتطور سريع يؤكد إرادة البلدين في تقوية الشراكة الاقتصادية بينهما وتعزيز تواجد الشركات الألمانية في الاقتصاد المغربي، خاصة بعد رسالة المستشار الألماني إلى الملك التي أكد من خلالها اعتراف الحكومة الألمانية بخطة المغرب للحكم الذاتي في الصحراء المغربية باعتبارها الأساس لإنهاء الصراع المفتعل، والتي تعبد في واقع الأمر الطريق لبرلين لعقد شراكة استراتيجية مع الرباط.
في الجانب الآخر من الحكاية، تقف العلاقات المغربية-الإسرائيلية على عتبة مرحلة جديدة بعد إعادة استئناف علاقاتها واتصالاتهما الدبلوماسية، وهو ما سيسهم في تعزيز العلاقات الثنائية في شتى المجالات، من بينها مجال انتاج الطاقة النظيفة، حيث تمد تل أبيب يدها الى الرباط، لتحقيق طموح المملكة المتمثل في إنتاج 52 في المائة من الكهرباء من مصادر نظيفة بنهاية عام 2023، و 80 في المائة بحلول عام 2080.
بتاريخ 29 شتنبر 2022، تم بجامعة “بار إيلان” في رمات غان، توقيع اتفاقية في مجال تعزيز وتقوية التعاون بين المغرب وإسرائيل، في مجال الطاقة بحضور مسؤولين مغاربة وإسرائيليين، والتي تهم إنشاء برامج بحثية مشتركة تهم البطاريات القابلة لإعادة الشحن وإعادة التدوير والطاقة الشمسية واقتصاد الهيدروجين، بالإضافة إلى البحث عن حل للتحدي الرئيسي الذي يواجه المغرب في تخزين الطاقة ونقلها إلى البلدان المجاورة؛ بما في ذلك إسبانيا.
أما التعاون العسكري بين الرباط وتل أبيب، فلم تعد تخطئه العين، بل تقرر اعطاؤه دفعة قوية على هامش انعقاد الاجتماع الأول للجنة تتبع التعاون المغربي الاسرائيلي في مجال الدفاع، يومي 16 و 17 يناير الجاري، بالرباط، تم خلاله بحث مختلف مجالات التعاون العسكري الثنائي، لاسيما اللوجستيك والتكوين والتداريب، وكذا اقتناء وتحديث التجهيزات، كما تقرر العمل على تعزيز هذا التعاون أكثر وتوسيعه ليشمل مجالات أخرى، خاصة الاستعلام والدفاع الجوي والحرب الإلكترونية.
حرص المملكة على تنويع شراكاتها الاقتصادية، و الخروج من دائرة “الحلفاء التقليديين”، يعزى في واقع الأمر الى الدينامية الجديدة التي بات يعرفها ملف الوحدة الترابية على الصعيد القاري والإقليمي والدولي، بعدما تزايد عدد البلدان المعترفة بمغربية الصحراء، والمشيدة بمبادرة الحكم الذاتي، دون نسيان ظهور الأطروحة الانفصالية داخل أروقة الاتحاد الافريقي.
كما أن هذا الحرص يعزى، أيضا الى كون المغرب أضحى يربط نجاعة شراكاته الاقتصادية مع الدول الشريكة، بمواقفها من النزاع المصطنع حول مغربية الصحراء، أو كما قال الملك محمد السادس، في الخطاب السامي الذي وجهه غشت الماضي، بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، أن ” ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، و المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”.
رسالة فهمتها فرنسا جيدا، وعوض أن تلتحق بالركب، وتنخرط في الدينامية الجديدة لملف الصحراء على الصعيد الدولي، توازي الموقف الأمريكي والإسباني والألماني، اختارت الارتكان الى المواقف الملتبسة، والمترددة والأساليب المتلوية، التي لم يعد لها مكان في مقاربة المغرب لملف وحدته الترابية، وفي علاقات المغرب مع شركائه على الصعيد الدولي.