مسيرة أيت بوكماز صرخة للإنصاف والعدالة الترابية.
مسيرة أيت بوكماز صرخة للإنصاف والعدالة الترابية.

ليست المسافات وحدها من تقاس بالكيلومترات، فثمة معاناة تقاس بسنوات النسيان، وصبر على فصول الشتاء القاسية، وكرامة تنهكها الطرق غير المعبدة والمراكز الصحية المغلقة والأجساد التي تنقلها البغال لا سيارات الإسعاف. في أيت بوكماز، تلك الرقعة النائية من الوطن الغالي ، انطلقت مسيرة استرداد الحق ، حق لا يسقط بالتقادم ولا تبرره تقلبات الجغرافيا، ولا تعفي من ضمانه هشاشة الموارد.
خرجت الساكنة في مسيرة سلمية راقية، يكسوها البرد وتغلفها الكرامة،وبصوت واحد وواضح يعلوا صراخا نحن هنا، لسنا هامشا على الخريطة، ولا رقما في إحصاء سكاني، مواطنون لا يطالبون سوى بحقهم في الحياة الكريمة ، كما يضمنها الفصل 31 من الدستور ، الذي يلزم الدولة بتعبئة الوسائل المتاحة لتيسير إستفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في العلاج والعناية الصحية، والتعليم والسكن اللائق، والولوج إلى الماء والبيئة السليمة.
أبناء أيت بوكماز يحتجون اليوم على الوضع الكارثي للبنية التحتية، وعلى العزلة الخانقة التي تخيم على مناطقهم كل شتاء، إحتجاج ليس سوى مرآة تعكس خللا بنيويا في توزيع الثروة والعدالة المجالية.
مسيرة ترد بملئ الحناجر ردا على كل من أساء تنزيل أوراش التنمية الجهوية، والعدالة الترابية، والنموذج التنموي الجديد، هاولاء اليوم الذين عليهم تحمل مسؤوليتهم والبحث عن حلول إستعجالية لما يعيشه مواطنون، في واقع لازال يعيد إنتاج نفس أنماط التفاوت والإقصاء.
إن مسيرة أيت بوكماز تضعنا أمام اختبار حقيقي لصدقية النموذج المؤسساتي المغربي في التفاعل مع أصوات الهامش، كما أنها تحتم علينا تجاوز منطق الحلول الترقيعية، والإنخراط في مقاربة حقوقية وتنموية مستدامة، تجعل من مواطن الجبل كما السفح ، فاعلا في ورش التنمية، لا مجرد متلقي لفتات الميزانيات. ذلك أن الحقوق، في فلسفتها الكونية، لا تتجزأ، ولا ترحل ولا تؤجل. فكما يملك مواطن الدار البيضاء حقه في المستشفى العصري والمدرسة الرقمية، يملك مواطن أيت بوكماز ذات الحق في مستشفى مؤهل وطريق سالكة ومدرسة دافئة تحفظ كرامة أبنائه.
إن المفارقة المؤلمة أن هؤلاء المحتجين لم يطالبوا إلا بحقوق أساسية ، فساروا مئات الكيلومترات، يرفعون الراية الوطنية وصور جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، ويهتفون بحب الوطن، وكأنهم يؤكدون للدولة على تشبتهم رغم مرارة العيش بكل معاني الولاء الحقيقي، إنهم يذكروننا جميعا بأن الانتماء ليس شعارا في نشرات الأخبار، بل عقدا إجتماعيا يجب أن يحترم ويصان.
فالمطلوب اليوم ليس فقط التجاوب مع مطالب أيت بوكماز، بل اعتبار هذه المسيرة إشعارا استباقيا للإنتباه الى باقي ربوع المغرب العميق. فالأمن الاجتماعي مسؤولية الجميع ،وعلى الحكومة أن تعمل جاهدة ليس من مكاتبها المكيفة بل ان تنزل الى قرانا النائية لتحقق العدالة المجالية وتضمن شروط الحياة الكريمة. فالتنمية الحقيقية لا تقاس بعدد المشاريع المهيكلة في المدن الكبرى، بل بمدى قدرة الدولة على إيصال الحد الأدنى من الخدمات إلى المناطق المنسية.
ختاما، لقد آن الأوان لإحداث رجة حقيقية في السياسات العمومية، تعيد ترتيب الأولويات وفق منطق حقوق الإنسان، لا منطق التسويق السياسي. كما آن الأوان لإقرار آلية وطنية للإنصاف الترابي، تكون مستقلة،آلية رقابية وتشاورية، تعنى برصد الإختلالات المجالية وتقديم مقترحات عملية لحلها.
ذ/ الحسين بكار السباعي
محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان.