هل على فرنسا أن تنتظر استفحال الأزمة حتى تعود إلى صوابها؟
الدار/ افتتاحية
من غير المفهوم أن تصر فرنسا على مواقفها اللاعبة على الحبلين فيما يخص القضايا المغربية المصيرية وعلى رأسها قضية الوحدة الترابية. ليس مستساغا بتاتا بالنسبة لنا كمغاربة نمتلك إرثا مشتركا وتاريخا متقاسما مع الجمهورية الفرنسية أن تظل فرنسا تغرد باستمرار خارج السّرب وتلزم ذلك الحياد المزعوم وتتردد في اتخاذ موقف صريح وشجاع من خلال الاعتراف النهائي بمغربية الصحراء وافتتاح قنصلية على غرار تلك التي تم افتتاحها في أقاليمنا الجنوبية العزيزة. أن يفعل ذلك بلد بعيد عن هذه الأرض من حيث الارتباط التاريخي أو الاقتصادي أو الثقافي فهذا أمر مفهوم.
نحن في المغرب لا ننتظر من النرويج أو النمسا أن تكونا سبّاقتين إلى مبادرة من هذا القبيل، لكن من حقّنا أن نحاسب ونسائل السلطات الفرنسية على استمرارها في الصمت المشحون بكل دلالات الغموض والتلاعب والخديعة السياسية. اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية رسميا بمغربية الصحراء، وهي أكبر قوة سياسية واقتصادية وعسكرية في العالم، وتراجعت إسبانيا عن مواقفها السابقة وأضحت تؤيد مشروع الحكم الذاتي صراحة وعلانية. وبادرت دول عربية شقيقة كالإمارات العربية المتحدة إلى افتتاح قنصلية لها في الأقاليم الجنوبية، بينما تواصل المملكة العربية السعودية دعمها المعلن والصريح لوحدتنا الترابية. ولم تتأخر العديد من الدول الإفريقية الصديقة أيضا عن اتخاذ المبادرة ذاتها.
ووسط هذا الزخم تستمر فرنسا ماكرون في ذلك الموقف الغامض على الرغم من أنها أولى كل هذه الدول بضرورة حسم النزاع المفتعل في الصحراء المغربية واتخاذ موقف نهائي يدفع الملف نحو الطيّ والإنهاء. أولا لأن لفرنسا تاريخا استعماريا ممتدا في المغرب والمنطقة، وهي تتحمل مسؤوليات تاريخية لا يمكن أن تتهرّب منها بخصوص النزاعات الحدودية التي خلّفتها والتلاعب في خرائط المنطقة ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي. وثانيا لأن فرنسا تمتلك مصالح لا حدود لها في المغرب، هناك شراكات اقتصادية كبرى واستثمارات هامة ومقاولات وشركات تستفيد من الفرص الاقتصادية ببلادنا. وثالثا هناك أيضا ذلك الارتباط الثقافي العميق الذي لا يمكن لأي من الطرفين إنكاره.
فالفرنكوفونية في المغرب ليست ولم تكن أبدا خصما أو عدوا، بل كان المغرب دائما واحدا من البلدان الإفريقية الأكثر انفتاحا على فرنسا وعلى الثقافة الفرنكوفونية، وكانت باريس تعلم جيدا أن لبلادنا دورا هاما في مجال تعزيز أواصر التعاون الثقافي وتبديد الخلافات بين الضفة الشمالية للمتوسط وجنوبها وتذليل كل أشكال الصراعات الطائفية والعرقية التي تعزز من الهوة بين الطرفين. ولن يتوقف المغرب أبدا عن لعب هذه الأدوار الحضارية التي يعتبرها أصلا جزء من هويته الأصيلة التي تنزع باستمرار نحو السلم والتعاون والحوار. يكفي أن يتذكر الفرنسيون اليوم أن الغالبية العظمى من الطلبة الأجانب الذين يملؤون المعاهد العليا وأرقى المدارس والجامعات الفرنسية هم من الكفاءات المغربية.
هذا يعني أن مستقبل العلاقات بين البلدين يتجاوز الخلافات الظرفية التي قد تظلل سماءها. المغرب متشبث بفرنسا كشريك وحليف وصديق استراتيجي وتاريخي، لكنه يصرّ اليوم على أن تراجع الحكومة الفرنسية كل ما يمكن أن يشوّش على هذا الموقف وعلى تلك العلاقات الراسخة. وهي تعلم أن أول عناصر التشويش هذه هي مسألة الوحدة الترابية لبلادنا، التي يعتبر اعتراف فرنسا بها بشكل نهائي أقل ما يمكن أن تقدمه، بعد كل هذا التاريخ الطويل من التضحيات والتفاعلات وتشابك المصالح وتصفية تركة الماضي والإصرار على الصداقة بدلا من الصراع والابتزاز. هذا هو سلوك المغرب تجاه فرنسا، فعلى فرنسا أن ترد التحية بأحسن منها.
لن نبالغ إذن إذا قلنا إن لفرنسا دينا تجاه المغرب ينبغي أن تؤديه. كنّا دائما في المغرب خارج لعبة الاستغلال والابتزاز والتوظيف السياسوي للعلاقات مع باريس. والشراكة المغربية الإفريقية هي في الحقيقة امتداد لا ينفصل عن العلاقات المغربية الفرنسية. وما دمنا قد حققنا معا كل هذه المنجزات الاقتصادية والتنموية على الرغم من الموقف المتردّد لباريس تجاه ملف الوحدة الترابية للمغرب، فما الذي يمكن أن تحقّقه العلاقات الثنائية بين البلدين في حال ما إذا عادت فرنسا إلى رشدها ومحت هذا الموقف الرمادي؟