أخبار الدار بلوسأخبار دولية

حين تبحث الجزائر عن هوية مفقودة في مرآة التراث المغربي

حين تبحث الجزائر عن هوية مفقودة في مرآة التراث المغربي

 

لا يمكن فهم إندفاع الجزائر نحو إختلاق “معارك تراثية” مع المغرب، إلا من خلال وضع هذا المشكل في سياقه السياسي العميق، سياق بلد لم يعرف لنفسه شكل الدولة الوطنية المستقلة إلا بعد 1962، حين صاغت له فرنسا حدود وهوية فوق ركام شتات عثماني و فرنسي متداخل، فكان أن ظل يبحث لنفسه عن “جذور” تسند شرعية دولة حديثة الولادة. هذا القلق الهوياتي الممتد دفع النظام الجزائري إلى تحويل التراث إلى ساحة تنازع، ومحاولة السطو على الذاكرة المغربية التي حافظت، عبر قرون طويلة، على أصالتها واستقلاليتها فلم تخضع لهيمنة العثمانيين، ولا ذابت في القالب الثقافي الفرنسي رغم الحماية.

إن التراث و بطبيعته الكونية لا يعترف بحدود الإستعمار، ولا بخطوط الخرائط التي رسمتها القوى الأوروبية في الزمن الكونولياني، إنه نتاج تفاعل إنساني ممتد تتشارك فيه شعوب المنطقة المغاربية منذ آلاف السنين. غير أن هذا المشترك لم يمنع الجزائر من تحويله إلى أداة صراع، ومحاولة فرض سردية جديدة في المحافل الدولية، وفي مقدمتها اليونسكو، عبر نزاع دائم حول ذاكرة ليست لها.
لقد تتبعنا كيف أشعل طبق الكسكس، وهو موروث مغاربي مشترك، جدلا لا ينتهي، إذ حاولت الجزائر نسبه إليها حصريا، رغم أن التاريخ والأنثروبولوجيا يؤكدان عمقه الأمازيغي المغربي قبل أن يتقاسمه المغاربيون جميعا. كما لم تسلم حتى الألبسة التقليدية من هذا التشويش، فحين ظهر مقطع لنساء مغربيات يرتدين الحايك، ذلك اللباس المعروف في حواضر المغرب منذ قرون، هاجمت الجزائر الحدث وكأنها اكتشفت ملكية “حصرية” لنسيج لا يعترف أصله بالحدود أصلا. ومع كل تسجيل جديد لعنصر من عناصر التراث المغربي في اليونسكو، تتجدد هذه الضوضاء. فبعد الاعتراف الدولي بـ فن الملحون كتراث إنساني مغربي خالص، سارعت الجزائر إلى خلق نقاشات هامشية، رغم أن هذا الفن ولد في المدن المغربية العتيقة وتشكل داخل بنيات حضارية لم تكن الجزائر يوما جزءا منها. و بعد تسجيل القفطان المغربي اليوم ، تراث عالمي غير مادي، والذي سبقةأن تقدمت المملكة بخصوصه بملف علمي متكامل يبرز إمتداد القفطان الإجتماعي والجمالي عبر تاريخ الدولة الشريفة، تجد الجزائر نفسها من جديد في موقع العاجز أمام عمق تراث لم تستطع صناعته ولا حيازة روافعه التاريخية.
إن ما تقوم به الجزائر ليس دفاع عن تراثها بقدر ما هو محاولة لملئ فراغ هوياتي ظل يلازمها منذ نشأتها الحديثة، ففرنسا لم تهدها دولة فقط عبر إقتطاع أحزاء من أراض دول الجوار، ومنها الصحراء الشرقية المغربية، بل صاغت لها كذلك خريطة بلا ذاكرة صلبة ولا عمق حضاري موحد. ولذلك ظل النظام الجزائري يبحث عن “هوية جاهزة” ليجدها في مرايا الآخرين، وفي مقدمتهم المملكة المغربية، الدولة العريقة التي حافظت على إستمرارية سيادتها وخصوصيتها الثقافية عبر كل المنعطفات التاريخية. وهكذا تحول التراث، بالنسبة للجزائر الرسمية، من مجال تعاون ثقافي إلى مجال صراع رمزي، ومن فضاء مشترك إلى “ساحة إقتناص”، بينما يواصل المغرب وبثقة الدول الراسخة تثبيت حضوره الحضاري في المحافل الدولية، مؤكدا على أن هويته ليست موضوع بحث أو إستعارة، بل إمتداد لدولة أصيلة حافظت على تأثيرها وإشعاعها منذ قرون.

ختاما، إن معارك الجزائر التراثية ليست سوى عرض من أعراض أزمة أعمق، أزمة دولة تبحث عن ذاكرة وعن تاريخ، وعن سند رمزي لشرعية مرتبكة. أما المغرب فليس بحاجة لإفتعال هذه الصراعات، لأن تراثه يتحدث عنه، وتاريخه أكبر شاهد على عظمته، وهويته راسخة لا تهزها المكائد.

د/ الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى